فصل: بيان وجه العلاج لحب المدح وكراهة الذم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إحياء علوم الدين **


بيان علاج حب الجاه

اعلم ان من غلب على قلبه حب الجاه صار مقصور الهم على مراعاة الخلق مشغوفاً بالتودد إليهم والمراءات لأجلهم ولا يزال في أقواله وأفعاله ملتفتاً إلى ما يعظم منزلته عندهم وذلك بذر النفاق وأصل الفساد ويجر ذلك لا محالة إلى التساهل في العبادات والمراءاة بها وإلى اقتحام المحظورات للتوصل إلى اقتناص القلوب ولذلك شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم حب الشرف والمال وإفسادهما للدين بذئبين ضاريين وقال عليه السلام ‏"‏ إنه ينبت النفاق كما ينبت الماء البقل ‏"‏ إذاً النفاق هو مخالفة الظاهر للباطن بالقول أو الفعل وكل من طلب المنزلة في قلوب الناس فيضطر إلى النفاق معهم وإلى التظاهر بخصال حميدة هو خال عنها وذلك هو عين النفاق‏.‏

فحب الجاه إذن من المهلكات فجب علاجه وإزالته عن القلب فإنه طبع جبل عليه القلب كما جبل على حب المال وعلاجه مركب من علم وعمل‏.‏

أما العلم‏:‏ فهو أن يعلم السبب الذي لأجله أحب الجاه وهو كمال القدرة على أشخاص الناس وعلى قلوبهم وقد بينا أن ذلك إن صفا وسلم فآخره الموت فليس هو من الباقيات الصالحات بل لو سجد لك كل من على بسيط الأرض من المشرق إلى المغرب فإلى خمسين سنة لا يبقى الساجد ولا المسجود له ويكون حالك كحال من مات قبلك من ذوي الجاه مع المتواضعين له‏.‏

فهذا لا ينبغي أن يترك به الدين الذي هو الحياة الأبدية التي لا انقطاع لها ومن فهم الكمال الحقيقي والكمال الوهمي - كما سبق - صغر الجاه في عينه إلا أن ذلك إنما يصغر في عين من ينظر إلى الآخرة كأنه يشاهدها ويستحقر العاجلة ويكون الموت كالحاصل عنده ويكون حاله كحال الحسن البصري حين كتب إلى عمر بن عبد العزيز ‏"‏ أما بعد‏:‏ فكأنك بآخر من كتب عليه الموت قد مات ‏"‏ فانظر كيف مد نظره نحو المستقبل وقدره كائناً‏.‏

وكذلك حال عمر بن عبد العزيز حين كتب في جوابه ‏"‏ أما بعد‏:‏ فكأنك الدنيا لم تكن وكأنك الآخرة لم تزل ‏"‏ فهؤلاء كان التفاتهم إلى العاقبة فكان عملهم لها بالتقوى إذ علموا أن العاقبة للمتقين فاستحقروا الجاه والمال في الدنيا‏.‏

وأبصار أكثر الخلق ضعيفة مقصورة على العاجلة لا يمتد نورها إلى مشاهدة العواقب ولذلك قال تعالى ‏"‏ بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى ‏"‏ وقال عز وجل ‏"‏ كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة ‏"‏ فمن هذا حده فينبغي أن يعالج قلبه من حب الجاه بالعلم بالآفات العاجلة وهو أن يتفكر في الأخطار التي يستهدف لها أرباب الجاه في الدنيا فإن كل ذي جاه محسود ومقصود بالإيذاء وخائف على الدوام على جاهه ومحترز من أن تتغير منزلته في القلوب والقلوب أشد تغيراً من القدر في غليانها وهي مترددة بين الإقبال والإعراض فكل ما يبنى على قلوب الخلق يضاهي ما يبنى على أمواج البحر فإنه لا ثبات له والاشتغال بمراعاة القلوب وحفظ الجاه ودفع كيد الحساد ومنع أذى الأعداء كل ذلك غموم عاجلة ومكدرة للذة الجاه فلا يفي في الدنيا مرجوها بمخوفها فضلاً عما يفوت في الآخرة فبهذا ينبغي أن تعالج البصيرة الضعيفة‏.‏

وأما من نفذت بصيرته وقوي إيمانه فلا يلتفت إلى الدنيا فهذا هو العلاج من حيث العلم‏.‏

وأما من حيث العمل‏:‏ فإسقاط الجاه عن قلوب الخلق بمباشرة أفعال يلام عليها حتى يسقط من أعين الخلق وتفارقه لذة القبول ويأنس بالخمول ويرد الخلق ويقنع بالقبول من الخالق‏.‏

وهذا هو مذهب الملامتية إذ اقتحموا الفواحش في صورتها ليسقطوا أنفسهم من أعين الناس فيسلموا من آفة الجاه وهذا غير جائز لمن يقتدى به فإنه يوهن الدين في قلوب المسلمين وأما الذي لا يقتدى به فلا يجوز له أن يقدم على محظور لأجل ذلك بل له أن يفعل من المباحات ما يسقط قدره عند الناس كما روي أن بعض الملوك قصد بعض الزهاد فلما علم بقربه منه استدعى طعاماً وبقلاً وأخذ يأكل بشره ويعظم اللقمة فلما نظر غليه الملك سقط من عينه وانصرف فقال الزاهد‏:‏ الحمد لله الذي صرفك عني‏.‏

ومنهم من شرب شراباً حلالاً في قدح لونه لون الخمر حتى يظن به أنه يشرب الخمر فيسقط من أعين الناس‏.‏

وهذا في جوازه نظر من حيث الفقه إلا أن أرباب الأحوال ربما يعالجون أنفسهم بما لا يفتي به الفقه مهما رأوا إصلاح قلوبهم فيه ثم يتداركون ما فرط منهم فيه من صورة التقصير كما فعل بعضهم فإنه عرف بالزهد وأقبل الناس عليه فدخل حماماً ولبس ثياب غيره وخرج فوقف في الطريق حتى عرفوه فأخذوه وضربوه واستردوا منه الثياب وقالوا‏:‏ إنه طرار وهجروه وأقوى الطرق في قطع الجاه الاعتزال عن الناس والهجرة إلى موضع الخمول فإن المعتزل في بيته في البلد الذي هو به مشهور لا يخلو عن حب المنزلة التي ترسخ له في القلوب بسبب عزلته فإنه ربما يظن أنه ليس محباً لذلك الجاه وهو مغرور وإنما سكنت نفسه لأنها قد ظفرت بمقصودها ولو تغير الناس عما اعتقدوه فيه فذموه أو نسبوه إلى أمر غير لائق به جزعت نفسه وتألمت وربما توصلت إلى الاعتذار عن ذلك وإماطة ذلك الغبار عن قلوبهم وربما يحتاج في إزالة ذلك عن قلوبهم إلى كذب وتلبيس ولا يبالي به وبه ويتبين بعد أنه محب للجاه والمنزلة‏.‏

ومن أحب الجاه والمنزلة فهو كمن أحب المال بل هو شر منه فإن فتنة الجاه أعظم ولا يمكنه أن لا يحب المنزلة في قلوب الناس ما دام يطمع في الناس فإذا أحرز قوته من كسبه أو من جهة أخرى وقطع طمعه عن الناس رأساً أصبح الناس كلهم عنده كالأرذال فلا يبالي أكان له منزلة في قلوبهم أم لم يكن كما لا يبالي بما في قلوب الذين هم منه في أقصى المشرق لأنه لا يراهم ولا يطمع فيهم ولا يقطع الطمع عن الناس إلا بالقناعة فمن قنع استغنى عن الناس وإذا استغنى لم يشتغل قلبه بالناس ولم يكن لقيام منزلته في القلوب عنده وزن ولا يتم ترك الجاه إلا بالقناعة وقطع الطمع‏.‏

ويستعين على جميع ذلك بالأخبار الواردة في ذم الجاه ومدح الخمول والذل مثل قولهم‏:‏ المؤمن لا يخلو من ذلة أو قلة أو علة‏.‏

وينظر في أحوال السلف وإيثارهم للذل على العز ورغبتهم في ثواب الآخرة رضي الله عنهم أجمعين‏.‏

بيان وجه العلاج لحب المدح وكراهة الذم

اعلم أن أكبر الناس إنما هلكوا فخوف مذمة الناس وحب مدحهم فصار حركاتهم كلها موقوفة على ما يوافق رضا الناس رجاء للمدح وخوفاً من الذم وذلك من المهلكات فيجب معالجته وطريقة ملاحظة الأسباب التي لأجلها يحب المدح ويكره الذم‏.‏

أما السبب الأول‏:‏ فهو استشعار الكمال بسبب قول المادح فطريقك فيه أن ترجع إلى عقلك وتقول لنفسك‏:‏ هذه الصفة التي يمدحك بها أنت متصف بها أم لا فإن كنت متصفاً بها فهي إما صفة تستحق المدح كالعلم والورع وإما صفة لا تستحق المدح كالثروة والجاه والأعراض الدنيوية فإن كانت من الأعراض الدنيوية فالفرح بها كالفرح بنبات الأرض الذي يصير على القرب أشد الغم عندي في سرور تيقن عنه صاحبه انتقالا فلا ينبغي أن يفرح الإنسان بعروض الدنيا وإن فرح فلا ينبغي أن يفرح بمدح المادح بها بوجودها والمدح ليس هو سبب وجودها‏.‏

وإن كانت الصفة مما يستحق الفرح بها كالعلم والورع فينبغي أن لا يفرح بها لأن الخاتمة غير معلومة وهذا إنما يفتضي الفرح لأنه يقرب عند الله زلفى وخطر الخاتمة باق ففي الخوف من سوء الخاتمة شغل عن الفرح بكل ما في الدنيا بل الدنيا دار أحزان وغموم لا دار فرح وسرور ثم إن كنت تفرح بها على رجاء حسن الخاتمة فينبغي أن يكون فرحك بفضل الله عليك بالعلم والتقوى لا يمدح المادح فإن اللذة في استشعار الكمال والكمال موجود من فضل الله لا من المدح والمدح تابع له فلا ينبغي أن تفرح بالمدح والمدح لا يزيدك فضلاً وإن كانت الصفة التي مدحت بها أنت خال عنها ففرحك بالمدح غاية الجنون ومثالك مثال من يهزأ به إنسان ويقول سبحان الله ما أكثر العطر الذي في أحشائه وما أطيب الروائح التي تفوح منه إذا قضى حاجته وهو يعلم ما تشتمل عليه أمعاؤه من الأقذار والأنتان ثم يفرح بذلك فكذلك إذا ثنوا عليك بالصلاح والورع ففرحت به والله مطلع على خبائث باطنك وغوائل سريرتك وأقذار صفاتك - كان ذلك من غاية الجهل‏.‏

فإذاً المادح إن صدق فليكن فرحك بصفتتك التي هي من فضل الله عليك وإن كذب فينبغي أن يغمك ذلك ولا تفرح به‏.‏

وأما السبب الثاني‏:‏ وهو دلالة المدح على تسخين قلب المادح وكونه سبباً لتسخير قلب آخر فهذا يرجع إلى حب الجاه والمنزلة في القلوب - وقد سبق وجه معالجته وذلك بقطع الطمع عن الناس وطلب المنزلة عند الله وبأن تعلم أن طلبة المنزلة في قلوب الناس وفرحك به يسقط منزلتك عند الله‏!‏ فكيف تفرح به وأما السبب الثالث‏:‏ وهو الحشمة التي اضطرت المادح إلى المدح فهو أيضاً يرجع إلى قدرة عارضة لإثبات لها ولا تستحق الفرح بل ينبغي أن يغمك مدح المادح وتكرهه وتغضب به - كما نقل ذلك عن السلف - لأن آفة المدح على الممدوح عظيمة - كما ذكرناه في كتاب آفات اللسان - قال بعض السلف‏:‏ من فرح بمدح فقد مكن الشيطان من أن يدخل في بطنه‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ نعم الرجل أنت فكان أحب إليك من أن يقال لك‏:‏ بئس الرجل أنت فأنت والله بئس الرجل‏.‏

وروي في بعض الأخبار - فإن صح فهو قاصم للظهور - أن رجلاً أثنى على رجل خيراً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ‏"‏ لو كان صاحبك حاضراً فرضي الذي قلت فمات على ذلك دخل النار وقال صلى الله عليه وسلم مرة للمادح ‏"‏ ويحك قصمت ظهره لو سمعك ما أفلح إلى يوم القيامة وقال عليه السلام ‏"‏ ألا لا تمادحوا وإذا رأيتم المادحين فاحثوا في وجوههم التراب فلهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين على وجل عظيم من المدح وفتنته وما يدخل على القلب من السرور العظيم به حتى إن بعض الخلفاء الراشدين سأل رجلاً عن شيء فقال‏:‏ أنت يا أمير المؤمنين خير مني وأعلم فغضب وقال‏:‏ إني لم آمرك بأن تزكيني وقيل لبعض الصحابة‏:‏ لا يزال الناس بخير ما أبقاك الله فغضب وقال‏:‏ إني لأحسبك عراقياً‏.‏

وقال بعضهم - لما مدح - اللهم إن عبدك تقرب إلي بمقتك فأشهدك على مقته‏.‏

وإنما كرهوا المدح خيفة أن يفرحوا بمدح الخلق وهم ممقوتون عند الخالق فكان اشتغال قلوبهم بحالهم عند الله تعالى

يبغض إليهم مدح الخلق لأن الممدوح هو المقرب عند الله والمذموم بالحقيقة هو المبعد من الله الملقى في النار مع الأشرار فهذا الممدوح إن كان عند الله من أهل النار فما أعظم جهله إذا فرح بمدح غيره وإن كان من أهل الجنة فلا ينبغي أن يفرح إلا بفضل الله تعالى وثنائه عليه إذ ليس أمره بيد الخلق‏.‏

ومهما علم أن الأرزاق والآجال بيد الله تعالى قل التفاته إلى مدح الخلق وذمهم وسقط من قلبه حب المدح واشتغل بما يهمه من أمر دينه‏.‏

والله الموفق للصواب برحمته‏.‏

بيان علاج كراهة الذم

قد سبق أن العلة في كراهة الذم هو ضد العلة في حب المدح فعلاجه أيضاً يفهم منه‏.‏

والقول الوجيز فيه أن من ذمك لا يخلو من ثلاثة أحوال‏.‏

إما أن يكون قد صدق فيما قال وقصد به النصح والشفقة وإما أن يكون صادقاً ولكن قصده الإيذاء والتعنت وإما أن يكون كاذباً‏.‏

فإن كان صادقاً وقصده النصح فلا ينبغي أن تذمه وتغضب عليه وتحقد بسببه بل ينبغي أن تتقلد منته فإن من أهدى إليك عيوبك فقد أرشدك إلى المهلك حتى تتقيه فينبغي أن تفرح به وتشتغل بإزالة الصفة المذمومة عن نفسك إن قدرت عليها فأما اغتمامك بسبب وكراهتك له وذمك إياه فإنه غاية الجهل وإن كان قصده التعنت فأنت قد انتفعت بقوله إذ أرشدك إلى عيبك إن كنت جاهلاً به وأذكرك عيبك إن كنت غافلاً عنه أو قبحه في عينك لينبعث من حرصك على إزالته إن كنت قد استحسنته‏.‏

وكل ذلك أسباب سعادتك وقد استفدته منه فاشتغل بطلب السعادة فقد أتيح لك أسبابها بسبب ما سمعته من المذمة‏.‏

فمهما قصدت الدخول على مللك وثوبك ملوث بالعذرة وأنت لا تدري ولو دخلت عليه كذلك لخفت أن يحز رقبتك لتلويثك مجلسة بالعذرة فقال قائل‏:‏ أيها الملوث بالعذرة طهر نفسك فينبغي أن تفرح به لأن تنبيهك بقوله غنيمة وجميع مساوئ الأخلاق مهلكة في الآخرة والإنسان إنما يعرفها من قول أعدائه فينبغي أن يغتنمه‏.‏

وأما قصد العدو التعنت فجناية منه على دين نفسه وهو نعمة منه عليك فلم تغضب عليه بقول انتفعت به أنت وتضرر هو به الحالة الثالثة‏:‏ أن يفتري عليك بما أنت بريء منه عند الله تعالى فينبغي أن لا تكره ذلك ولا تشتغل بذمه بل تتفكر في ثلاثة أمور ‏"‏ أحدها ‏"‏ أنك إن خلوت من ذلك العيب فلا تخلو عن أمثاله وأشباهه وما ستره الله من عيوبك أكثر فاشكر الله تعالى إذ لم يطلعه على عيوبك ودفعه عنك بذكر ما أنت بريء عنه‏.‏

‏"‏ والثاني ‏"‏ أن ذلك كفارات لبقية مساويك وذنوبك فكأنه رماك بعيب أنت بريء منه وطهرك من ذنوب أنت ملوث بها وكل من اغتابك فقد أهدى إليك حسناته وكل من مدحك فقد قطع ظهرك‏.‏

فما بالك تفرح بقطع الظهر وتحزن لهدايا الحسنات التي تقربك إلى الله تعالى وأنت تزعم أنك تحب القرب من الله‏.‏

‏"‏ وأما الثالث ‏"‏ فهو أن المسكين قد جنى على دينه حتى سقط من عين الله وأهلك نفسه بافترائه وتعرض لعقابه الأليم فلا ينبغي أن تغضب عليه مع غضب الله عليه فتشمت به الشيطان وتقول‏:‏ اللهم أهلكه بل ينبغي أن تقول‏:‏ اللهم أصلحه اللهم تب عليه اللهم ارحمه كما قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اللهم اغفر لقومي اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون لما أن كسروا ثنيته وشجوا وجهه وقتلوا عمه حمزة يوم أحد‏.‏

ودعا إبراهيم بن أدهم لمن شج رأسه بالمغفرة فقيل له في ذلك فقال‏:‏ علمت أني مأجور بسبب وما نالني منه إلا خير فلا أرضى أن يكون هو معقباً بسببي‏.‏

ومما يهون عليك كراهة المذمة قطع الطمع فإن من استغنيت عنه مهما ذمك لم يعظم أثر ذلك في قلبه وأصل الدين القناعة وبها ينقطع الطمع عن المال والجاه وما دام الطمع قائماً كان حب الجاه والمدح في قلب من طمعت فيه غالباً وكانت همتك إلى تحصيل المنزلة في قلبه مصروفة ولا ينال ذلك إلا بهدم الدين فلا ينبغي أن يطمع طالب المال والجاه ومحب المدح ومبغض الذم في سلامة دينه فإن ذلك بعيد جداً‏.‏

بيان اختلاف أحوال الناس في المدح والذم

اعلم أن للناس أربعة أحوال بالإضافة إلى الذام والمادح‏:‏ الحالة الأولى‏:‏ أن يفرح بالمدح ويشكر المادح ويغضب من الذم ويحقد على الذام ويكافئه أو يحب مكافأته وهذا حال أكثر الخلق وهو غاية درجات المعصية في هذا الباب‏.‏

الحالة الثانية‏:‏ أن يمتعض في الباطن على الذام ولكن يمسك لسانه وجوارحه عن مكافاته ويفرح باطنه ويرتاح للمادح ولكن يحفظ ظاهره عن إظهار السرور وهذا من النقصان إلا أنه بالإضافة إلى ما قبله كمال‏.‏

الحالة الثالثة‏:‏ وهي أول درجات الكمال أن يستوي عنده ذامه ومادحه فلا تغمه المذمة ولا تسره استثقالاً‏.‏

وهذا قد يظنه بعض العباد بنفسه ويكون مغروراً إن لم يمتحن نفسه بعلاماته‏.‏

وعلاماته أن لا يجد في نفسه استثقالاً للذام عند تطويله الجلوس عنده أكثر مما يجده في المادح وأن لا يجد في نفسه زيادة هزة ونشاط في قضاء حوائج المادح فوق ما يجده في قضاء حاجة الذام وأن لا يكون انقطاع الذام عن مجلسه أهون عليه من انقطاع المادح وأن لا يكون موت المادح المطري له أشد نكاية في قلبه من موت الذام وأن لا يكون غمه بمصيبة المادح وما يناله من أعدائه أكثر مما يكون بمصيبة الذام وأن لا تكون زلة المادح أخف على قلبه وفي عينه من زلة الذام‏.‏

فمهما خف الذام على قلبه كما خف المادح واستويا من كل وجه فقد نال هذه الرتبة وما أبعد ذلك وما أشده على القلوب‏!‏ وأكثر العباد فرحهم بمدح الناس لهم مستبطن في قلوبهم وهم لا يشعرون حيث لا يمتحنون أنفسهم بهذه العلامات وربما شعر العابد بميل قلبه إلى المادح دون الذام والشيطان يحسن له ذلك ويقول‏:‏ الذام قد عصى الله بمذمتك والمادح قد أطاع الله بمدحك فكيف تسوي بينهما وإنما استثقالك للذام من الدين المحض‏.‏

وهنا محض التلبيس فإن العابد لو تفكر علم أن في الناس من ارتكب كبائر المعاصي أكثر مما ارتكب الذام في مذمته ثم إنه لا يستثقلهم ولا ينفر عنهم ويعلم أن المادح الذي مدح لا يخلو عن مذمة غيره‏.‏

ولا يجد في نفسه نفرة عنه بمذمة غيره كما يجد لمذمة نفسه والمذمة من حيث إنها معصية لا تختلف بأن يكون هو المذموم أو غيره‏.‏

فإذا العابد المغرور لنفسه يغضب ولهواه يمتعض ثم إن الشيطان يخيل إليه أنه من الدين حتى يعتل على الله بهواه فيزيده ذلك بعداً من الله‏.‏

ومن لم يطع على مكايد الشيطان وآفات النفوس فأكثر عباداته تعب ضائع يفوت عليه الدنيا ويخسره في الآخرة وفيهم قال الله تعالى ‏"‏ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذي ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ‏"‏‏.‏

الحالة الرابعة‏:‏ وهي الصدق في العبادة أن يكره المدح ويمقت المادح إذا يعلم أنه فتنة عليه قاصمة للظهر مضرة له في الدين ويحب الذام إذ يعلم أنه مهد غليه عيبه ومرشد له إلى مهمه ومهد إليه حسناته فقد قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ رأس التواضع أن تكره أن تذكر بالبر والتقوى وقد روي في بعض الأخبار ما هو قاصم لظهور أمثالنا إن صح إذ روي أن صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ ويل للصائم وويل للقائم وويل لصاحب الصوف إلا من‏.‏

‏"‏ فقيل يا رسول الله إلا من فقال ‏"‏ إلا من تنزهت نفسه عن الدنيا وأبعض المدحة واستحب المذمة وهذا شديد جداً وغاية أمثالها الطمع في الحالة الثانية وهو أن يضمر الفرح والكراهة على الذام والمادح ولا يظهر ذلك بالقول والعمل فأما الحالة الثالثة وهي التسوية بين المادح والذام فلسنا نطمع فيها‏.‏

ثم إن طالبنا أنفسنا بعلامة الحالة الثانية فإنها لا تفي بها لأنها لا بد وأن تتسارع إلى إكرام المادح وقضاء حاجاته وتتثاقل على إكرام الذام والثناء عليه وقضاء حوائجه ولا نقدر على أن نسوي بينهما في الفعل الظاهر كما لا نقدر عليه في سريرة القلب ومن قدر على التسوية بين المادح والذام في ظاهر الفعل فهو جدير بأن يتخذ قدوة في هذا الزمان إن وجد فإنه الكبريت الأحمر يتحدث الناس به ولا يرى فكيف بما بعده من المرتبتين وكل واحدة من هذه الرتب أيضاً فيها درجات‏.‏

أما الدرجات في المدح فهو أن من الناس من يتمنى المدحة والثناء وانتشار الصيت فيتوصل إلى نيل ذلك بكل ما يمكن حتى يرائي بالعبادات ولا يبالي بمفارقة المحظورات لاستمالة قلوب الناس واستنطاق ألسنتهم بالمدح وهذا من الهالكين‏.‏

ومنهم من يريد ذلك ويطلبه بالمباحات ولا يطلبه بالعبادات ولا يباشر المحظورات وهذا على شرف جرف هاو فإن حدود الكلام الذي يستميل به القلوب وحدود الأعمال لا يمكنه أن يضبطها فيوشك أن يقع فيما لا يحل لنيل الحمد فهو قريب من الهالكين جداً‏.‏

ومنهم من لا يريد المدحة ولا يسعى لطلبها ولكن إذا مدح سبق السرور إلى قلبه فإذا لم يقابل ذلك بالمجاهدة ولم يتكلف الكراهية فهو قريب من أن يستجره فرط السرور إلى الرتبة التي قبلها وإن جاهد نفسه في ذلك وكلف قلبه الكراهية وبغض السرور إليه بالتفكر في آفات المدح فهو في خطر المجاهدة فتارة تكون اليد له وتارة تكون عليه‏.‏

ومنهم من إذا سمع المدح لم يسر به ولم يغتم به ولم يؤثر فيه وهذا على خير وإن كان قد بقي عليه بقية من الإخلاص‏.‏

ومنهم من يكره المدح إذا سمعه ولكن لا ينتهي به إلى أن يغضب على المادح وينكر عليه وأقصى درجاته أن يكره ويغضب ويظهر الغضب وهو صادق فيه لا أن يظهر الغضب وقلبه محب له فإن ذلك عين النفاق لأنه يريد أن يظهر من نفسه الإخلاص والصدق وهو مفلس عنه وكذلك بالضد من هذا تتفاوت الأحوال في حق الذام وأول درجاته إظهار الغضب وآخرها إظهار الفرح ولا يكون الفرح وإظهاره إلا ممن في قلبه حنق وحقد على نفسه لتمردها عليه وكثرة عيوبها ومواعيدها الكاذبة وتلبيساتها الخبيثة فيبغضها بغض العدو والإنسان يفرح ممن يذم عدوه وهذا شخص عدوه نفسه فيفرح إذا سمع ذمها ويشكر الذام على ذلك ويعتقد فطنته وذكاءه لما وقف على عيوبها فيكون ذلك كالتشفي له من نفسه ويكون غنيمة عنده إذ صار بالمذمة أوضع في أبين الناس حتى لا يبتلي بفتنة الناس وإذا سقيت إليه حسنات لم ينصب فيها فسعاه يكون خيراً لعيوبه التي هو عاجز عن إماطتها ولو جاهد المريد نفسه طول عمره في هذه الخصلة الواحدة وهو أن يستوي عنده ذامه ومادحه لكان له شغل شاغل فيه لا يتفرغ معه لغيره وبينه وبين السعادة عقبات كثيرة هذه إحداها ولا يقطع شيئاً منها إلا بالمجاهدة الشديدة في العمر الطويل‏.‏

الشطر الثاني من الكتاب وهو الرياء

وفيه بيان ذم الرياء وبيان حقيقة الرياء وما يرائى وبيان درجات الرياء وبيان الرياء الخفي وبيان ما يحبط العمل من الرياء وما لا يحبط وبيان دواء الرياء وعلاجه وبيان الرخصة في إظهار الطاعات وبيان الرخصة في كتمان الذنوب وبيان ترك الطاعات خوفاً من الرياء والآفات وبيان ما يصح من نشاط العبد للعبادات بسبب رؤية الخلق وبيان ما يجب على المريد أن يلزمه قلبه قبل الطاعة وبعدها‏.‏

وهي عشرة فصول وبالله التوفيق‏.‏

بيان ذم الرياء

اعلم أن الرياء حرام والمرائي عند الله ممقوت وقد شهدت لذلك الآيات والأخبار والآثار‏.‏

أما الآيات‏:‏ فقوله تعالى ‏"‏ فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ‏"‏ وقوله عز وجل ‏"‏ والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور ‏"‏ قال مجاهد هم أهل الرياء‏.‏

وقال تعالى ‏"‏ إنما نعطمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ‏"‏ فمدح المخلصين ينفي كل إرادة سوى وجه الله والرياء ضده وقال تعالى ‏"‏ فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحدا نزل بعد ذلك فيمن يطلب الأجر والحمد بعباداته وأعماله‏.‏

وأما الأخبار‏:‏ فقد قال صلى الله عليه وسلم حيث سأله رجل فقال‏:‏ يا رسول الله فيم النجاة فقال ‏"‏ أن لا يعمل العبد بطاعة الله يريد بها الناس ‏"‏ وقال أبو هريرة في حديث الثلاثة - المقتول في سبيل الله والمتصدق بماله والقارئ لكتاب الله كما أوردناه في كتاب الإخلاص -‏:‏ وإن الله عز وجل يقول لكل واحد منهم‏:‏ كذبت بل أردت أن يقال فلان جواد كذبت بل أردت أن يقال فلان شجاع كذبت بل أردت أن يقال فلان قارئ‏.‏

فأخبر صلى الله عليه وسلم أنهم يثابوا وأن رياءهم هو الذي أحبط أعمالهم وقال ابن عمر رضي الله عنهما‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من راءى راءى الله به ومن سمع سمع الله به وفي حديث آخر طويل ‏"‏ إن الله تعالى يقول لملائكته إن هذا لم يردني بعمله فاجعلوه في سجين وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله ‏"‏ قال الرياء ‏"‏ يقول الله عز وجل يوم القيامة إذا جازى العباد بأعمالهم‏:‏ اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا عل تجدون عندهم الجزاء وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ استعيذوا بالله عز وجل من جب الحزن قيل وما هو يا رسول الله قال ‏"‏ واد جهنم أعد للقراء المرائين وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يقول الله عز وجل‏:‏ من عمل لي عملاً أشرك فيه غيري فهو له كله وأنا منه بريء وأنا أغنى الأغنياء عن الشرك وقال عيسى المسيح صلى الله عليه وسلم‏:‏ إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن رأسه ولحيته ويمسح شفتيه لئلا يرى الناس أنه صائم وإذا أعطى بيمينه فليخف عن شماله وإذا صلى فليرخ ستر بابه فإن الله يقسم الثناء كما يقسم الرزق وقال نبينا صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا يقبل الله عز وجل عملاً فيه مثقال ذرة من رياء وقال عمر لمعاذ بن جبل حين رآه يبكي‏:‏ ما يبكيك قال‏:‏ حديث سمعته من صاحب هذا القبر يعني النبي صلى الله عليه وسلم يقول ‏"‏ إن أدنى الرياء شرك وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهرة الخفية وهي أيضاً ترجع إلى خطايا الرياء ودقائقه وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله رجلاً تصدق بيمينه فكاد يخفيها عن شماله ولذلك ورد ‏"‏ أن فضل عمل السر على عمل الجهر بسبعين ضعفاً وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن المرائي ينادى عليه يوم القيامة يا فاجر يا غادر يا مرائي ضل عملك وحبط أجرك اذهب فخذ أجرك ممن كنت تعمل له وقال شداد بن أوس‏:‏ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يبكي فقلت ما يبكيك يا رسول الله قال ‏"‏ إني تخوفت على أمتي الشرك أما إنهم لا يعبدون صنماً ولا شمساً ولا قمراً ولا حجراً ولكنهم يراءون بأعمالهم وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لما خلق الله الأرض مادت بأهلها فخلق الجبال فصيرها أوتاداً للأرض‏.‏

فقالت الملائكة‏:‏ ما خلق ربنا خلقاً هو أشد من الجبال ‏"‏ فخلق الله الحديد فقطع الجبال ثم خلق النار فأذابت الحديد ثم أمر الله الماء بإطفاء النار وأمر الريح فكدرت الماء فاختلفت الملائكة فقالت‏:‏ نسأل الله تعالى قالوا‏:‏ يا رب ما أشد ما خلقت من خلقك قال الله تعالى لم أخلق خلقاً هو أشد على من قلب ابن آدم حين يتصدق بصدقة بيمينه فيخفيها عن شماله فهذا أشد خلقاً خلقه وروى عبد الله بن المبارك بإسناده عن رجل أنه قال لمعاذ بن جبل‏:‏ حدثني حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ فبكى معاذ حتى ظننت أنه لا يسكت ثم سكت ثم قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قال لي ‏"‏ يا معاذ ‏"‏ قلت لبيك بأبي أنت وأمي يا رسول الله قال ‏"‏ إني محدثك حديثاً إن أنت حفظته نفعك وإن أنت ضيعته ولم تحفظه انقطعت حجتك عند الله يوم القيامة يا معاذ إن الله تعالى خلق سبعة أملاك قبل أن يخلق السموات والأرض ثم خلق السموات فجعل لكل سماء من السبعة ملكاً بواباً عليها قد جللها عظماً فتصعد الحفظة بعمل العبد من حين أصبح إلى حين أمسى له نور كنور الشمس حتى إذا صعدت به إلى السماء الدنيا زكته فكثرته فيقول الملك للحفظة‏:‏ اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه أنا صاحب الغيبة أمرني ربي أن لا أدع عمل من اغتاب الناس يجاوزني إلى غيري ‏"‏ قال ‏"‏ ثم تأتي الحفظة بعمل صالح من أعمال العبد فتمر به فتزكيه وتكثره حتى تبلغ به إلى السماء الثانية فيقول لهم الملك الموكل بها‏:‏ قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه إنه أراد بعمله هذا عرض الدنيا أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري إنه كان يفتخر به على الناس في مجالسهم ‏"‏ قال ‏"‏ وتصعد الحفظة يعمل يبتهج نوراً من صدقة وصيام وصلاة قد أعجب الحفظة فيجاوزون به إلى السماء الثالثة فيقول لهم الملك الموكل بها‏:‏ قفوا واضربوا بها العمل وجه صاحبه أنا ملك الكبر أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري إنه كان يتكبر على الناس في مجالسهم ‏"‏ قال ‏"‏ وتصعد الحفظة بعمل العبد يزهر كما يزهر الكوكب الدري له دوى من تسبيح وصلاة وحج وعمرة حتى يجاوزوا به السماء الرابعة فيقول لهم الملك الموكل بها‏:‏ قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه اضربوا به ظهره وبطنه أنا صاحب العجب أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري إنه كان إذا عمل عملاً أدخل العجب في عمله ‏"‏ قال ‏"‏ وتصعد الحفظة بعمل العبد حتى تجاوزوا به السماء الخامسة كأنه العروس المزفوفة إلى أهلها فيقول لهم الملك الموكل بها‏:‏ قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه واحملوه على عاتقه أنا ملك الحسد إنه كان يحسد الناس من يتعلم ويعمل بمثل عمله وكل من كان يأخذ فضلاً من العبادة يحسدهم ويقع فيها أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري ‏"‏ قال ‏"‏ وتصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة وزكاة وحج وعمرة وصيام فيجاوزون بها إلى السماء السادسة فيقول لهم الملك الموكل بها‏:‏ قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه إنه كان لا يرحم إنساناً قط من عباد الله أصابه بلاء أو ضر أضر به بل كان يشمت به أنا ملك الرحمة أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري ‏"‏ قال ‏"‏ وتصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء السابعة من صوم وصلاة ونفقة وزكاة واجتهاد وورع له دوي كدوي الرعد وضوء كضوء الشمس معه ثلاثة آلاف ملك فيجاوزون به إلى السماء السابعة فيقول لهم الملك الموكل بها‏:‏ قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه اضربوا به جوارحه اقفلوا به على قلبه إني أحجب عن ربي كل عمل لم يرد به وجه ربي إنه أراد بعمله غير الله تعالى إنه أراد رفعة عن الفقهاء وذكراً عند العلماء وصيتاً في المدائن أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري وكل عمل لم لله خالصاً فهو رياء ولا يقبل الله عمل المرائي ‏"‏ قال ‏"‏ وتصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة وزكاة وصيام وحج وعمرة وخلق حسن وصمت وذكر لله تعالى وتشيعه ملائكة السموات حتى يقطعوا به الحجب كلها إلى الله عز وجل فيقفون بين يديه ويشهدون له بالعمل الصالح المخلص لله ‏"‏ قال ‏"‏ فيقول الله لهم أنتم الحفظة على عمل عبدي وأنا الرقيب على نفسه إنه لم يردني بهذا العمل وأراد به غيري فعليه لعنتي فتقول الملائكة كلهم‏:‏ عليه لعنتك ولعنتنا وتقول السماوات كلها‏:‏ عليه لعنة الله ولعنتنا وتلعنه السماوات السبع والأرض ومن فيهن ‏"‏ قال معاذ‏:‏ قلت يا رسول الله أنت رسول الله وأنا معاذ قال ‏"‏ اقتد بي وإن كان في عملك نقص يا معاذ حافظ على لسانك من الوقيعة في إخوانك من حملة القرآن واحمل ذنوبك عليك ولا تحملها عليهم ولا تزك نفسك بذمهم ولا ترفع نفسك عليهم ولا تدخل عمل الدنيا في عمل الآخرة ولا تتكبر في مجلسك لكي يحذر الناس من سوء خلقك ولا تناج رجلاً وعندك آخر ولا تتعظم على الناس فينقطع عنك خير الدنيا ولا تمزق الناس فتمزقك كلاب النار يوم القيامة في النار قال الله تعالى ‏"‏ والناشاطات نشطاً ‏"‏ أتدري من هن يا معاذ ‏"‏ قلت‏:‏ ما هن بأبي أنت وأمي يا رسول الله قال ‏"‏ كلاب في النار تنشط اللحم والعظم ‏"‏ قلت‏:‏ بأبي أنت وأمي يا رسول الله فمن يطيق هذه الخصال ومن ينجو منها قال ‏"‏ يا معاذ إنه ليسير على من يسره الله عليه قال فما رأيت أكثر تلاوة للقرآن من معاذ للحذر مما في هذا الحديث‏.‏

وأما الآثار‏:‏ فيروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلاً يطأطئ رقبته فقال‏:‏ يا صاحب الرقبة ارفع ركبتك ليس الخشوع في الرقاب إنما الخشوع في القلوب ورأى أبو أمامة البلقلي رجلاً في المسجد يبكي في سجوده فقال‏:‏ أنت أنت لو كان هذا في بيتك‏.‏

وقال علي كرم الله وجهه‏:‏ للمرائي ثلاث علامات يكسل إذا كان وحده وينشط إلى كان في الناس يزيد في العمل إذا أثني عليه وينقص إذا ذم‏.‏

وقال رجل لعبادة بن الصامت‏:‏ أقاتل بسيفي في سبيل الله أريد به وجه الله تعالى ومحمدة الناس قال‏:‏ لا شيء لك فسأله ثلاث مرات كل ذلك يقول‏:‏ لا شيء لك ثم قال في الثالثة‏:‏ ‏(‏إن الله يقول أنا أغنى الأغنياء عن الشرك‏)‏ الحديث‏.‏

وسأل رجل سعيد بن المسيب فقال‏:‏ إن أحدثنا يصطنع المعروف يحب أن يحمد ويؤجر فقال له‏:‏ أتحب أن تمقت قال‏:‏ لا قال‏:‏ فإذا عملت لله عملاً فأخلصه‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ لا يقولن أحدكم هذا لوجه الله ولوجهك ولا يقولن هذا لله وللرحم فإن الله تعالى لا شريك له‏.‏

وضرب عمر رجلاً بالدرة ثم قال له‏:‏ اقتص مني‏!‏ فقال‏:‏ لا بل أدعها لله ولك‏.‏

فقال له عمر‏:‏ ما صنعت شيئاً إما أن تدعها لي فأعر فذلك أو تدعها لله وحده فقال‏:‏ ودعتها لله وحده فقال‏:‏ فنعم إذن‏.‏

وقال الحسن‏:‏ لقد صحبت أقواماً إن كان أحدهم لتعرض له الحكمة لو نطق بها لنفعته ونفعت أصحابه وما يمنعه منها إلا مخافة الشهرة وإن كان أحدهم ليمر فيرى الأذى في الطريق فما يمنعه أن ينحيه إلا مخافة الشهرة ويقال‏:‏ إن المرائي ينادى يوم القيامة بأربعة أسماء‏:‏ يا مرائي يا غادر يا خاسر يا فاجر اذهب فخذ أجرك ممن عملت له فلا أجر لك عندنا‏.‏

وقال الفضيل بن عياض‏:‏ كانوا يراءون بما يعملون وصاروا اليوم يراءون بما لا يعملون‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ إن الله يعطي العبد على نيته ما لا يعطيه على عمله لأن النية لا رياء فيها‏.‏

وقال الحسن رضي الله‏:‏ المرائي يريد أن يغلب قدر الله تعالى وهو رجل سوء يريد أن يقول الناس هو رجل صالح وكيف يقولون وقد حل من ربه محل الأردياء فلا بد لقلوب المؤمنين أن تعرفه‏.‏

وقال قتادة‏:‏ إذا راءى العبد يقول الله تعالى انظروا إلى عبدي يستهزئ بي‏.‏

وقال مالك بن دينار الفراء‏:‏ ثلاثة قراء الرحمن وقراء الدنيا وقراء الملوك وأن محمد بن واسع من قراء الرحمن‏.‏

وقال الفضل‏:‏ من أراد أن ينظر إلى مراء فلينظر إلي‏.‏

وقال محمد بن المبارك الصوري‏:‏ أظهر السمت بالليل فإنه أشرف من سمتك بالنهار لأن السمت بالنهار للمخلوقين وسمت الليل لرب العالمين‏.‏

وقال أبو سليمان‏:‏ التوقي عن العمل أشد من العمل‏.‏

وقال ابن المبارك‏:‏ إن كان الرجل ليطوف بالبيت وهو بخراسان فقيل له وكيف ذاك قال يحب أن لا يذكر أنه مجاور بمكة‏.‏

وقال إبراهيم بن أدهم‏:‏ ما صدق الله من أراد أن يشتهر‏.‏

بيان حقيقة الرياء وما يراءى به

اعلم أن الرياء مشتق من الرؤية والسمعة مشتقة من السماع وإنما الرياء أصله طلب المنزلة في قلوب الناس بإبراءهم خصال الخير إلا أن الجاه والمنزلة تطلب في القلب بأعمال سوى العبادات وتطلب بالعبادات‏.‏

واسم الرياء مخصوص بحكم العادة بطلب المنزلة في القلوب بالعبادة وإظهارها فحد الرياء هو إرادة العباد بطاعة الله فالمرائي هو العابد والمرائي هو الناس المطلوب رؤيتهم بطلب المنزلة في قلوبهم والمرائي به هو الخصال التي قصد المرائي إظهارها والرياء هو قصده إظهار ذلك والمراءى به كثير وتجمعه خمسة أقسام وهي مجامع ما يتزين به العبد للناس وهو‏:‏ البدن والزي والقول والعمل والأتباع والأشياء الخارجة‏.‏

وكذلك أهل الدنيا يراءون بهذه الأسباب الخمسة غلا أن طلب الجاه وقصد الرياء بأعمال ليست من جملة الطاعات أهون من ‏"‏ القسم الأول ‏"‏ الرياء في الدين بالبدن‏:‏ وذلك بإظهار النحول والصفار ليوهم بذلك شدة الاجتهاد وعظم الحزن على أمر الدين وغلبة خوف الآخرة وليدل بالنحول على قلة الأكل وبالصفار على سهر الليل وكثرة الاجتهاد وعظم الحزن على الدين وكذلك يرائي بتشعيث الشعر ليدل به على استغراق الهم بالدين وعدم التفرغ لتسريح الشعر‏.‏

وهذه الأسباب مهما ظهرت استدل الناس بها على هذه الأمور فارتاحت النفس لمعرفتهم فلذلك تدعوه النفس إلا إظهارها لنيل تلك الراحة‏.‏

ويقرب من هذا خفض الصوت وإغارة العينين وذبول الشفتين ليستدل بذلك على أنه مواظب على الصوم وأن وقار الشرع هو الذي خفض من صوته أو ضعف الجوع هو الذي ضعف من قوته‏.‏

وعن هذا قال المسيح عليه السلام‏:‏ إذا صام أحدكم فليدهن رأسه ويرجل شعره ويكحل عينيه‏.‏

وكذلك روي عن أبي هريرة وذلك كله لما يخاف عليه من نزغ الشيطان بالرياء ولذلك قال ابن مسعود أصبحوا صياماً مدهنين‏.‏

فهذه مراءاة أهل الدين بالبدن‏.‏

فأما أهل الدنيا فيراءون بإظهار السمن وصفاء اللون واعتدال القامة وحسن الوجه ونظافة البدن وقوة الأعضاء وتناسبها‏.‏

‏"‏ الثاني ‏"‏ الرياء بالهيئة والزي‏:‏ أما الهيئة فبتشعيث شعر الرأس وحلق الشارب وإطراق الرأس في المشي والهدوء في الحركة وإبقاء أثر السجود على الوجه وغلظ الثياب ولبس الصوف وتشميرها إلى قريب من الساق وتقصير الأكمام وترك تنظيف الثوب وتركه مخرقاً كل ذلك يرائي به ليظهر من نفسه أنه متبع للسنة فيه ومقتد فيه بعباد الله الصالحين ومن ذلك لبس المرقعة والصلاة على السجادة ولبس الثياب الزرق تشبهاً بالصوفية مع الإفلاس من حقائق التصوف في الباطن‏.‏

ومنه التقنع بالإزار فوق العمامة وإسبال الرداء على العينين ليرى به أنه قد انتهى تقشفه إلى الحذر من غبار الطريق ولتنصرف إليه الأعين بسبب تميزه بتلك العلامة‏.‏

ومنه الدراعة والطيلسان يلبسه من هو خال عن العلم ليوهم أنه من أهل العلم‏.‏

والمراءون بالزي على طبقات‏:‏ فمنهم من يطلب المنزلة عند أهل الصلاة بإظهار الزهد فيلبس الثياب المخرقة الوسخة القصيرة الغليظة ليرائي بغلظها ووسخها وقصرها وتخرقها أنه غير مكترث بالدنيا ولو كلب أن يلبس ثوباً وسطاً نظيفاً مما كان السلف يلبسه لكان عنده بمنزلة الذبح وذلك لخوفه أن يقول الناس قد بدا له من الزهد ورجع عن تلك الطريق ورغب في الدنيا‏:‏ وطبقة أخرى يطلبون القبول عن أهل الصلاح وعند أهل الدنيا من الملوك والوزراء والتجار ولو لبسوا الثياب الفاخرة ردهم القراء ولو لبسوا الثياب المخرقة البذلة ازدرتهم أعين الملوك والأغنياء فهم يريدون الجمع بين قبول أهل الدين والدنيا فلذلك يطلبون الأصواف الدقيقة والأكسية الرقيقة والمرقعات المصبوغة والفوط الرفيعة فيلبسونها ولعل قيمة ثوب أحد الأغنياء ولونه وهيأته لون ثياب الصلحاء فيلتمسون القبول عند الفريقين وهؤلاء إن كلفوا لبس ثوب خشن أو وسخ لكان عندهم الذبح خوفاً من السقوط من أعين الملوك والأغنياء ولو كلفوا لبسوا الديبقى والكتان الدقيق الأبيض والمقصب المعلم - وإن كانت قيمته دون قيمة ثيابهم - لعظم ذلك عليهم خوفاً من أن يقول أهل الصلاح قد رغبوا في زي أهل الدنيا‏.‏

وكل طبقة منهم رأى منزلته في زي مخصوص فيثقل عليهم الانتقال إلى ما دونه وإن كان مباحاً خيفة من المذمة‏.‏

وأما أهل الدنيا فمراءاتهم بالثياب النفيسة والمراكب الرفيعة وأنواع التوسع والتجمل في الملبس والمسكن وأثاث البيت وفره الخيول وبالثياب المصبغة والطيالسة النفيسة وذلك ظاهر بين الناس فإنهم يلبسون في بيوتهم الثياب الخشنة ويشتد عليهم لو برزوا للناس على تلك الهيئة ما لم يبالغوا في الزينة‏.‏

‏"‏ الثالث ‏"‏ الرياء بالقول‏:‏ ورياء أهل الدين بالوعظ والتذكير والنطق بالحكمة وحفظ الأخبار والآثار لأجل الاستعمال في المحاورة وإظهاراً لغزارة العلم ودلالة على شدة العناية بأحوال السلف الصالحين وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمشهد الخلق وإظهار الغضب للمنكرات وإظهار الأسف على مقارفة الناس للمعاصي

وتضعيف الصوت في الكلام وترقيق الصوت بقراءة القرآن ليدل بذلك على الخوف والحزن وادعاء حفظ لحديث ولقاء الشيوخ والدق على من يروي الحديث ببيان خلل في لفظه ليعرف أنه بصير بالأحاديث والمبادرة إلى أن الحديث صحيح أو غير صحيح لإظهار الفضل فيه والمجادلة على قصد إفحام الخصم ليظهر للناس قوته علم الدين‏.‏

والرياء بالقول كثير وأنواعه لا تنحصر‏.‏

وأما أخل الدنيا فمراءاتهم بالقول بحفظ الأشعار والأمثال والتفاصح في العبارات وحفظ النحو الغريب للأغراب على أهل الفضل وإظهار التودد إلى الناس لاستمال القلوب‏.‏

‏"‏ الرابع ‏"‏ الرياء بالعمل‏:‏ كمراءاة المصلي بطول القيام ومد الظهر وطول السجود والركوع وإطراق الرأس وترك الالتفات وإظهار الهدوء والسكون وتسوية القدمين واليدين وكذلك بالصوم والغزو والحج وبالصدقة وبإطعام الطعام وبالإخبات في المشي عند اللقاء كإرخاء الجفون وتنكيس الرأس والوقار في الكلام حتى إن المرائي قد يسرع في المشي إلى حاجته فإذا طلع عليه أحد من أهل الدين رجع إلى الوقار وإطراق الرأس خوفاً من أن ينسبه إلى العجلة وقلة الوقار فإن غاب الرجل عاد إلى عجلته فإذا رآه عاد إلى خشوعه ولم يحضر ذكر الله حتى يكون يجدد الخشوع له بل هو لإطلاع إنسان عليه يخشى أن لا يعتقد فيه أنه من العباد والصلحاء ومنهم من إذا سمع هذا استحيا من أن تخالف مشيته في الخلوة مشيته بمرأى من الناس فيكلف نفسه المشية الحسنة في الخلوة حتى إذا رآه الناس لم يفتقر إلى التغيير ويظن أنه يتخلص به عن الرياء وقد تضاعف به رياؤه فإنه صار في خلوته أيضاً مرائياً فإنه إنما يحسن مشيته في الخلوة ليكون كذلك في الملأ لا لخوف من الله وحياء منه‏.‏

وأما أهل الدنيا فمراءاتهم بالتبختر والاختيال وتحريك اليدين وتقريب الخطا والأخذ بأطراف الذيل وإدارة العطفين ليدلوا بذلك على الجاه والحشمة‏.‏

‏"‏ الخامس ‏"‏ المراءاة بالأصحاب والزائرين والمخالطين‏:‏ كالذي يتكلف أن يستزير عالماً من العلماء ليقال إن فلاناً قد زار فلاناً أو عابداً من العباد ليقال إن أهل الدين يتبركون بزيارته ويترددون

إليه أو ملكاً من الملوك أو عاملاً من عمال السلطان ليقال إنهم يتبركون به لعظم رتبته في الدين‏.‏

وكالذي يكثر ذكر الشيوخ ليرى أنه لقي شيوخاً كثيرة واستفاد منهم فيباهي بشيوخه ومباهاته ومراءاته تترشح منه عند مخاصمته فيقول لغيره‏:‏ من لقيت من الشيوخ وأنا قد لقيت فلاناً وفلاناً ودرت البلاد وخدمت الشيوخ وما يجري مجراه‏.‏

فهذه مجامع ما يرائي به المراءون وكلهم يطلبون بذلك الجاه والمنزلة في قلوب العباد‏.‏

ومنهم من يقنع بحسن الاعتقادات فيه فكم من راهب انزوى إلى ديره سنين كثيرة وكم من عابد اعتزل إلى قلة جبل مدة مديدة وإنما خبأته من حيث علمه بقيام جاهه في قلوب الخلق ولو عرف أنهم نسبوه إلى جريمة في ديره أو صومعته لتشوش قلبه ولم يقنع بعلم الله ببراءة ساحته بل يشتد لذلك غمه ويسعى بكل حيلة في إزالة ذلك من قلوبهم مع أنه قد قطع طمعه من أموالهم ولكنه يحب مجرد الجاه - فإنه لذيذ كما ذكرناه في أسبابه - فإنه نوع قدرة وكمال في الحال وإن كان سريع الزوال لا يغتر به إلا الجهال ولكن أكثر الناس جهال ومن المرائين من لا يقنع بقيام منزلته بل يلتمس من ذلك إطلاق اللسان بالثناء والحمد‏.‏

ومنهم من يريد انتشار الصيت في البلاد لتكثر الرحلة إليه‏.‏

ومنهم من يريد الاشتهار عند الملوك لتقبل شفاعته وتنجز الحوائج على يده فيقوم له بذلك جاه عند العامة ومنهم من يقصد التوصل بذلك إلى جمع حطام وكسب مال ولو من الأوقاف وأموال اليتامى وغير ذلك من الحرام وهؤلاء شر طبقات المرائين الذين يراءون بالأسباب التي ذكرناها‏.‏

فهذه حقيقة الرياء وما به يقع الرياء‏.‏

فإن قلت‏:‏ فالرياء حرام أو مكروه أو مباح أو فيه تفصيل فأقول فيه تفصيل فإن الرياء هو طلب الجاه وهو إما أن يكون بالعبادات أو بغير العبادات فإن كان بغير العبادات فهو طلب المال فلا يحرم من حيث إنه طلب منزلة في قلوب العباد ولكن كما يمكن كسب المال بتلبيسات وأسباب محظورات فكذلك الجاه وكما أن كسب قليل من المال هو ما يحتاج إليه الإنسان محمود فكسب قليل من الجاه وهو ما يسلم به عن الآفات أيضاً محمود وهو الذي طلبه يوسف عليه السلام حيث قال ‏"‏ إني حفيظ عليم ‏"‏ وكما أن المال فيه سم ناقع ودرياق نافع فكذلك الجاه وكما أن كثير المال يلهي ويطغى وينسي ذكر الله والدار الآخرة فكذلك كثير الجاه بل أشد وفتنة الجاه أعظم من فتنة المال وكما أنا نقول تملك المال الكثير حرام فلا نقول أيضاً تملك القلوب الكثيرة حرام إلا إذا حملته كثرة المال وكثرة الجاه على مباشرة ما لا يجوز‏.‏

نعم انصراف الهم إلى سعة الجاه مبدأ الشرور كانصراف الهم إلى كثرة المال ولا يقدر محب الجاه والمال على ترك معاصي القلب واللسان وغيرها وأما سعة الجاه من غير حرص منك على طلبه ومن غير اغتمام بزواله إن زال فلا ضرر فيه فلا جاه أوسع من جاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاه الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من علماء الدين ولكن انصراف الهم إلى طلب الجاه نقصان في الدين ولا يوصف بالتحريم فعلى هذا نقول‏:‏ تحسين الثوب الذي يلبسه الإنسان عند الخروج إلى الناس مراءاة وهو ليس بحرام لأنه ليس رياء بالعبادة بل بالدنيا وقس على هذا كل تجمل للناس وتزين لهم‏.‏

والدليل عليه ما روي عن عائشة رضي الله عنها‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يخرج يوماً إلى الصحابة فكان ينظر في جب الماء ويسوي عمامته وشعره فقالت‏:‏ أو تفعل ذلك يا رسول الله قال ‏"‏ نعم إن الله تعالى يحب من العبد أن يتزين لإخوانه إذا خرج إليهم نعم هذا كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم عبادة لأنه كان مأموراً بدعوة الخلق وترغيبهم في الاتباع واستمالة قلوبهم ولو سقط من أعينهم لو يرغبوا في اتباعه فكان يجب عليه أن يظهر لهم محاسن أحواله لئلا تزدريه أعينهم فإن أعين عوام الخلق تمتد إلى الظواهر دون السرائر فكان ذلك قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن لو قصد قاصد به أن يحسن نفسه في أعينهم حذراً من ذمهم ولومهم واسترواحاً إلى توقيرهم واحترامهم كان قد قصد أمراً مباحاً إذ للإنسان أن يحترز من ألم المذمة ويطلب راحة الأنس بالإخوان‏.‏

ومهما استثقلوه واستقذروه لم يأنس بهم‏.‏

فإذن المراءاة بما ليس من العبادات قد تكون مباحة وقد تكون طاعة وقد تكون مذمومة وذلك بحسب الغرض المطلوب بها‏.‏

ولذلك نقول‏:‏ الرجل إذا أنفق ماله على جماعة من الأغنياء لا في معرض العبادة والصدقة ولكن ليعتقد الناس أنه سخي فهذا مراءاة وليس بحرام وكذلك أمثاله‏.‏

أما العبادات كالصدقة والصلاة والصيام والغزو والحج فللمرائي فيه حالتان إحداهما‏:‏ أن لا يكون له قصد إلا الرياء المحض دون الأجر وهذا يبطل عبادته لأن الأعمال بالنيات وهذا ليس بقصد العبادة لا يقتصر على إحباط عبادته حتى نقول صار كما كان قبل العبادة بل يعصي بذلك ويأثم كما دلت عليه الأخبار والآيات‏.‏

والمعنى فيه أمران ‏"‏ أحدهما ‏"‏ يتعلق بالعباد وهو التلبيس والمكر لأنه خيل إليهم أنه مخلص مطيع لله وأنه من أهل الدين وليس كذلك والتلبيس في أمر الدنيا حرام أيضاً حتى لو قضى دين جماعة وخيل للناس أنه متبرع عليهم ليعتقدوا سخاوته أثم به لما فيه من التلبيس وتملك القلوب بالخداع والمكر‏.‏

‏"‏ والثاني ‏"‏ يتعلق بالله وهو أنه مهما قصد بعبادة الله تعالى خلق الله فهو مستهزئ بالله‏.‏

ولذلك قال قتادة‏:‏ إذا راءى العبد قال الله لملائكته انظروا إليه كيف يستهزئ بي‏.‏

ومثاله أن يتمثل بين يدي ملك من الملوك طول النهار كما جرت عادة الخدم وإنما وقوفه لملاحظة جارية من جواري الملك أو غلام من غلمانه فإن هذا استهزاء بالملك إذ لم يقصد التقريب إلى الملك بخدمته بل قصد بذلك عبداً من عبيده فأي استحقار يزيد على أن يقصد العبد بطاعة الله تعالى مراءاة عبد ضعيف لا يملك له ضراً ولا نفعاً وهل ذلك إلا لأنه يظن أن ذلك العبد أقدر على تحصيل أغراضه من الله وأنه أولى بالتقريب إليه من الله إذ آثره على ملك الملوك فجعله مقصود عبادته وأي استهزاء يزيد على رفع العبد فوق المولى فهذا من كبائر المهلكات ولهذا سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرك الأصغر‏.‏

نعم بعض درجات الرياء أشد من بعض - كما سيأتي بيانه في درجات الرياء إن شاء الله تعالى - ولا يخلو شيء منه عن إثم غليظ أو خفيف بحسب ما به المراءاة ولو لم يكن في الرياء إلا أنه يسجد ويركع لغير الله لكان فيه كفاية فإنه وإن لم يقصد التقرب إلى الله فقد قصد غير الله ولعمري لو عظم غير الله بالسجود لكفر كفراً جلياً إلا أن الرياء هو الكفر الخفي لأن المرائي عظم في قلبه الناس فاقتضت تلك العظمة أن يسجد ويركع فكان الناس هم المعظمون بالسجود من وجه ومهما زال قصد تعظيم الله بالسجود وبقي تعظيم الخلق كان ذلك قريباً من الشرك إلا أنه قصد تعظيم نفسه في قلب من عظم عنده بإظهاره من نفسه صورة التعظيم لله فعن هذا كان شركاً خفياً لا شركاً جلياً وذلك غاية الجهل ولا يقدم عليه إلا من خدعه الشيطان وأوهم عنده أن العباد يملكون من ضره ونفعه ورزقه وأجله ومصالح حاله ومآله أكثر مما يملكه الله تعالى فلذلك عدل بوجهه عن الله إليهم وأقبل بقلبه عليهم ليستميل بذلك قلوبهم ولو وكله الله تعالى إليهم في الدنيا والآخرة لكان ذلك أقل مكافأة له على صنيعه فإن العباد كلهم عاجزون عن أنفسهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً فكيف يملكون لغيرهم هذا في الدنيا فكيف في يوم لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً بل تقول الأنبياء فيه نفسي نفسي فكيف يستبدل الجاهل عن ثواب الآخرة ونيل القرب عند الله ما يرتقبه بطمعه الكاذب في الدنيا من الناس فلا ينبغي أن نشك في أن المرائي بطاعة الله في سخط الله من حيث النقل والقياس جميعاً هذا إذا لم يقصد الأجر فأما إذا قصد الأجر والحمد جميعاً في صدقته أو صلاته فهو الشرك الذي يناقض الإخلاص‏.‏

وقد ذكرنا حكمه في كتاب الإخلاص ويدل على ما نقلناه من الآثار قول سعيد بن المسيب وعبادة بن الصامت‏.‏

إنه لا أجر له فيه أصلاً‏.‏